فصل: ذكر قدوم السلطان محمود إلى بغداد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ثامن صفر توفي أتابك طغتكين صاحب دمشق وهو مملوك الملك تتش بن ألب أرسلان وكان عاقلًا خيرًا كثير الغزوات والجهاد للفرنج حسن السيرة في رعيته مؤثرًا للعدل فيهم وكان لقبه ظهير الدين ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الملوك بوري وهو أكبر أولاده بوصية من والده بالملك وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته‏.‏

وفيها مستهل رجب توفي الوزير جلال الدين أبو علي بن صدقة وزير الخليفة وكان حسن السيرة جميل الطريقة متواضعًا محبًا لأهل العلم مكرمًا لهم وله شعر حسن فمنه في مدح المسترشد بالله‏:‏ وجدت الورى كالماء طعمًا ورقة وأن أمير المؤمنين زلاله وصورت معنى العقل شخصًا مصورًا وأن أمير المؤمنين مثاله ولولا طريق الدين والشرع والتقى لقلت من الإعظام جل جلاله وأقيم في النيابة بعده شرف الدين علي بن طراد الزينبي ثم جعل وزيرًا وخلع عليه آخر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وعشرين ولم يزِر للخلفاء من بني العباس هاشمي غيره‏.‏

وفيها هبت ريح شديدة اسودت لها الآفاق وجاءت بتراب أحمر يشبه الرمل وظهر في السماء أعمدة كأنها نار فخاف الناس وعدلوا إلى الدعاء والاستغفار فانكشف عنهم ما يخافونه‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

  ذكر قدوم السلطان محمود إلى بغداد

في هذه السنة في المحرم قدم السلطان محمود بغداد بعد عوده من عند عمه السلطان سنجر ومعه دبيس بن صدقة ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله فتأخر دبيس عن السلطان ثم دخل بغداد ونزل بدار السلطان واسترضى عنه الخليفة فامتنع الخليفة من الإجابة إلى أن يولي دبيس شيئًا من البلاد وبذل مائة ألف دينار لذلك‏.‏

وعلم أتابك زنكي أن السلطان يريد أن يولي دبيس الموصل فبذل مائة ألف دينار وحضر بنفسه إلى خدمة السلطان فلم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر وحمل معه الهدايا الجليلة فأقام عند السلطان ثلاثة أيام وخلع عليه وأعاده إلى الموصل‏.‏

وخرج السلطان يتصيد فعمل له شيخ المزرفة دعوة عظيمة امتار منها جميع عسكر السلطان وأدخله إلى حمام في داره وجعل فيه عوض الماء ماء الورد فأقام السلطان إلى رابع جمادى الآخرة وسار عنها إلى همذان وجعل بهزور على شحنكية بغداد وسلمت إليه الحلة أيضًا‏.‏

  ذكر ما فعله دبيس بالعراق وعود السلطان إلى بغداد

لما رحل السلطان إلى همذان ماتت زوجته وهي ابنة السلطان سنجر وهي التي كانت تعنى بأمر دبيس وتدافع عنه فلما ماتت انحل أمر دبيس‏.‏

ثم إن السلطان مرض مرضًا شديدًا فأخذ دبيس ابنًا له صغيرًا وقصد العراق فلما سمع المسترشد بالله بذلك جند الأجناد وحشد وكان بهروز بالحلة فهرب منها فدخلها دبيس في شهر رمضان فلما سمع السلطان الخبر عن دبيس أحضر الأميرين قزل والأحمديلي وقال‏:‏ أنتما ضمنتما دبيسًا مني وأريده منكما‏.‏

فسار الأحمديلي إلى العراق إلى دبيس ليكف شره عن البلاد ويحضره إلى السلطان فلما سمع دبيس الخبر أرسل إلى الخليفة يستعطفه ويقول‏:‏ إن رضيت عني فأنا أرد أضعاف ما أخذت وأكون العبد المملوك فتردد الرسل ودبيس يجمع الأموال والرجال فاجتمع معه عشرة آلاف فارس وكان قد وصل في ثلاثمائة فارس ووصل الأحمديلي بغداد في شوال وسار في أثر دبيس‏.‏

ثم إن السلطان سار إلى العراق فلما سمع دبيس بذلك أرسل إليه هدايا جليلة المقدار وبذل ثلاثمائة حصان منعلة بالذهب ومائتي ألف دينار ليرضى عنه السلطان والخليفة فلم يجبه إلى ذلك ووصل السلطان إلى بغداد في ذي القعدة فلقيه الوزير الزينبي وأرباب المناصب فلما تيقن دبيس وصوله رحل إلى البرية وقصد البصرة وأخذ منها أموالًا كثيرة وما للخليفة والسلطان هناك من الدخل فسير السلطان إثره عشرة آلاف فارس ففارق البصرة ودخل البرية‏.‏

  ذكر قتل الإسماعيلية بدمشق

قد ذكرنا فيما تقدم قتل إبراهيم الأسداباذي ببغداد وهرب ابن أخته بهرام إلى الشام وملكه قلعة بانياس ومسيره إليها ولما فارق دمشق أقام له بها خليفة يدعو الناس إلى مذهبه فكثروا وانتشروا وملك هو عدة حصون من الجبال منها القدموس وغيره وكان بوادي التيم من أعمال بعلبك وأصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية والدرزية والمجوس وغيرهم وأميرهم اسمه الضحاك فسار إليهم بهرام سنة اثنتين وعشرين وحصرهم وقاتلهم فخرج إليه الضحاك في ألف رجل وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم وقتل منهم مقتلة كثيرة وقتل بهرام وانهزم من سلم وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة‏.‏

وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلًا من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل فقام مقامه وجمع شمل من عاد إليه منهم وبث دعاته في البلاد وعاضده المزدقاني أيضًا وقوى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة والهم بسببها‏.‏

ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عوض بهرام إنسانًا اسمه أبو الوفاء فقوي أمره وعلا شأنه وكثر أتباعه وقام بدمشق فصار المستولي على من بها من المسلمين وحكمه أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك‏.‏

ثم إن المزدقاني راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق ويسلموا إليه مدينة صور واستقر الأمر بينهم على ذلك وتقرر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه وقرر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليوم بأبواب الجامع فلا يمكنوا أحدًا من الخروج منه ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد‏.‏

فبلغ الخبر تاج الملوك صاحب دمشق فاستدعى المزدقاني إليه فحضر وخلا معه فقتله تاج الملوك وعلق رأسه على باب القلعة ونادى في البلد بقتل الباطنية فقتل منهم ستة آلاف نفس وكان ذلك منتصف رمضان من السنة وكفى الله المسلمين شرهم ورد على الكافرين كيدهم‏.‏

ولما تمت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناس فيهلكوا فراسل الفرنج وبذل لهم تسليم بانياس إليهم والانتقال إلى بلادهم فأجابوه فسلم القلعة إليهم وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادهم ولقوا شدة وذلة وهوانًا وتوفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين وكفى الله المؤمنين شرهم‏.‏

  ذكر حصر الفرنج دمشق وانهزامهم

لما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك وتأسفوا على دمشق حيث لم يتم لهم ملكها وعمتهم المصيبة فاجتمعوا كلهم‏:‏ صاحب القدس وصاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس وأما الراجل فلا يحصى وساروا إلى دمشق ليحصروها‏.‏

ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس ووصل الفرنج في ذي الحجة فنازلوا البلد وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد فلما سمع تاج الملوك أن جمعًا كثيرًا قد ساروا إلى حوران لنهبه وإحضاره الميرة سير أميرًا من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع من المسلمين إليهم وكان خروجهم في ليلة شاتية كثيرة المطر ولقوا الفرنج من الغد فواقعوهم واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض فظفر بهم المسلمون وقتلوهم فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلًا وأخذوا ما معهم وهي عشرة آلاف دابة موقَرة وثلاثمائة أسير وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح‏.‏

فلما علم من عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب فرحلوا عنها شبه المنهزمين وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وميرة وغير ذلك وتبعهم المسلمون والمطر شديد والبرد عظيم يقتلون كل من تخلف منهم فكثر القتلى منهم وكان نزولهم ورحيلهم في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

  ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حماة

وسبب ذلك‏:‏ أنه عبر الفرات إلى الشام وأظهر أنه يريد جهاد الفرنج وأرسل إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق يستنجده ويطلب منه المعونة على جهادهم فأجاب إلى المراد وأرسل من أخذ له العهود والمواثيق فلما وصلت التوثقة جرد عسكرًا من دمشق مع جماعة من الأمراء وأرسل إلى ابنه سونج وهو بمدينة حماة يأمره بالنزول إلى العسكر والمسير معهم إلى زنكي ففعل ذلك فساروا جميعهم فوصلوا إليه فأكرمهم وأحسن لقاءهم وتركهم أيامًا‏.‏

ثم إنه غدر بهم فقبض على سونج ولد تاج الملوك وعلى جماعة الأمراء المقدمين ونهب خيامهم وما فيها من الكراع واعتقلهم بحلب وهرب من سواهم وسار من يومه إلى حماة فوصل إليها وهي خالية من الجند الحماة الذابين فملكها واستولى عليها ورحل عنها إلى حمص وكان صاحبها قرجان بن قراجة معه في عسكره وهو الذي أشار عليه بالغدر بولد تاج الملوك فقبض عليه ونزل على حمص وحصرها وطلب من قرجان صاحبها أن يأمر نوابه وولده الذين فيها بتسليمها فأرسل إليهم بالتسليم فلم يقبلوا منه ولا التفتوا إلى قوله فأقام عليها محاصرًا لها ومقاتلًا لمن فيها مدة طويلة فلم يقدر على ملكها فرحل عنها عائدًا إلى الموصل واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ومن معه من الأمراء الدمشقيين‏.‏

وترددت الرسل في إطلاقهم بينه وبين تاج الملوك واستقر الأمر على خمسين ألف دينار فأجاب تاج الملوك إلى ذلك ولم ينتظم بينهم أمر‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ملك بيمند صاحب أنطاكية حصن القدموس من المسلمين‏.‏

و في هذه السنة أيضًا وثب الإسماعيلية على عبد اللطيف بن الخجندي رئيس الشافعية بأصبهان فقتلوه وكان ذا رئاسة عظيمة وتحكم كثير‏.‏

و في هذه السنة توفي الإمام أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد وله طريقة مشهورة في الخلاف وتفقه على أبي المظفر السمعاني وكان له قبول عظيم عند الخليفة والسلطان وسائر الناس‏.‏

وفيها توفي حمزة بن هبة الله بن محمد بن الحسن الشريف العلوي الحسني النيسابوري سمع الحديث الكثير ورواه ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة وجمع مع شرف النسب شرف النفس والتقوى وكان زيدي المذهب‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة

من محمد خان وملك محمود بن محمد خان المذكور

في هذه السنة في ربيع الأول ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه كان قد رتب فيها لما ملكها أولًا أرسلان خان محمد بن سليمان بن بغراجان داود فأصابه فالج فاستناب ابنًا له يعرف بنصرخان وكان شهمًا شجاعًا وكان بسمرقند إنسان علوي فقيه مدرس إليه الحل والعقد والحكم في البلد فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصر خان فقتلاه ليلًا وكان أبوه محمد خان غائبًا فعظم عليه واشتد وكان له ابن آخر غائب في بلاد تركستان‏.‏

فأرسل إليه واستدعاه فلما قارب سمرقند خرج العلوي ورئيس البلد إلى استقباله فقتل العلوي في الحال وقبض على الرئيس‏.‏

وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر رسولًا يستدعيه ظنًا منه أن ابنه لا يتم أمره مع العلوي والرئيس فتجهز سنجر وسار يريد سمرقند فلما ظفر ابن أرسلان خان بهما ندم على استدعاء السلطان سنجر فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بالعلوي والرئيس وأنه وابنه على الطاعة ويسأله العود إلى خراسان فغضب سنجر من ذلك وأقام أيامًا فبينما هو في الصيد إذ رأى اثني عشر رجلًا في السلاح التام فقبض عليهم وعاقبهم فأقروا أن محمد خان أرسلهم ليقتلوه فقتلهم ثم سار إلى سمرقند فملكها عنوة ونهب بعضها ومنع من الباقي وتحصن منه محمد خان ببعض تلك الحصون فاستنزله السلطان سنجر بأمان بعد مدة فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته زوجة السلطان سنجر فبقي عندها إلى أن توفي‏.‏

وأقام سنجر بسمرقند مدة حتى أخذ المال والسلاح والخزائن وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين وعاد إلى خراسان فلم يلبث حسن تكين أن مات فملك سنجر بعده عليها محمود بن محمد خان بن سليمان بن داود المقدم ذكره وقيل إن السبب غير ما ذكرناه وسيرد ذكره سنة ست وثلاثين للحاجة إلى ذكره هناك‏.‏

  ذكر فتح عماد الدين حصن الأثارب وهزيمة الفرنج

لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية حلب وأعمالها وما ملكه وقرر قواعده عاد إلى الموصل وديار الجزيرة ليستريح عسكره ثم أمرهم بالتجهز للغزاة فتجهزوا وأعدوا واستعدوا وعاد إلى الشام وقصد حلب فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته لشدة ضرره على المسلمين‏.‏

وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ بينها وبين أنطاكية وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان بينها وبين البلد عرض الطريق وكان أهل البلد معهم في ضر شديد وضيق كل يوم قد أغاروا عليهم ونهبوا أموالهم‏.‏

فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن فسار إليه ونازله‏.‏

فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه فاستشار أصحابه فيما يفعل وكل أشار بالعود عن الحصن فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدرى على أي شيء تكون العاقبة‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا وخربوا بلادنا ولا بد من لقائهم على كل حال‏.‏

ثم ترك الحصن وتقدم إليهم فالتقوا واصطفوا للقتال وصبر كل فريق لخصمه واشتد الأمر بينهم ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا وانهزم الفرنج أقبح هزيمة ووقع كثير من فرسانهم في الأسر وقتل منهم خلق كثير وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز وقال‏:‏ هذا أول مصاف عملناه معهم فلنذقهم من بأسنا ما يبقى رعبه في قلوبهم ففعلوا ما أمرهم ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلًا فقيل لي‏:‏ إن كثيرًا من العظام باق إلى ذلك الوقت‏.‏

فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة وقتلوا وأسروا كل من فيه وأخربه عماد الدين وجعله دكًا وبقي إلى الآن خرابًا ثم سار منه إلى قلعة حارم وهي بالقرب من أنطاكية فحصرها وهي أيضًا للفرنج فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه فأجابهم إلى ذلك وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال وضعفت قوى الكافرين وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع‏.‏

  ذكر ملك عماد الدين مدينة سرجي

لما فرغ من أمر الأثارب وتلك النواحي عاد إلى ديار الجزيرة وكان قد بلغه عن حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي صاحب ماردين وابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب حصن كيفا قوارص فعاد إليهم وحصر مدينة سرجي وهي بين ماردين ونصيبين فاجتمع حسام الدين وركن الدولة وصاحب آمد وغيرهم وجمعوا خلقًا كثيرًا من التركمان بلغت عدتهم فحكى لي ولدي وقال‏:‏ لما انهزم ركن الدولة داود قصد بلد جزيرة ابن عمر ونهبه فبلغ الخبر إلى عماد الدين فسار نحو الجزيرة وأراد دخول بلد داود ثم عاد عنه لضيق مسالكه وخشونة الجبال التي في الطريق وسار إلى دارا فملكها وهي من القلاع في تلك الأعمال‏.‏

  ذكر وفاة الآمر وخلافة الحافظ العلوي

في هذه السنة ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي صاحب مصر خرج إلى متنزه له فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه لأنه كان سيء السيرة في رعيته وكانت ولايته تسعًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعمره أربعًا وثلاثين سنة وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية وهو أيضًا العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضًا‏.‏

ولما قتل لم يكن له ولده بعده فولي بعده ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله ولم يبايع بالخلافة وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابة حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه ويكون هو نائبًا عنه‏.‏

ومولد الحافظ بعسقلان لأن أباه خرج من مصر إليها في الشدة فأقام بها فولد ابنه عبد المجيد هناك ولما ولي استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي واستبد بالأمر وتغلب على الحافظ وحجر عليه وأودعه في خزانة ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي وبقي الحافظ له اسم لا معنى تحته ونقل أبو علي كل ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين فاستقامت أمور الحافظ وحكم في دولته وتمكن من ولايته وبلاده‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفيت الخاتون ابنة السلطان سنجر وهي زوجة السلطان محمود‏.‏

وفيها قتل بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية‏.‏

وفيها توفي نصير الدين محمود بن مؤيد الملك بن نظام الملك في شعبان ببغداد ووقع الحريق في داره بعد وفاته وفي حظائر الحطب والسوق التتشي فذهب من الناس أموال كثيرة‏.‏

وفيها وزر الرئيس أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الصوفي لصاحب دمشق تاج الملوك‏.‏

وفيها كان الرصد بالدار السلطانية شرقي بغداد تولاه البديع الاصطرلابي ولم يتم‏.‏

وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد وأذى عظيم‏.‏

وفيها في ذي الحجة خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان وكان عند عمه السلطان سنجر ووصل إلى ساوة ووقع الإرجاف أن عزمه على مخالفة أخيه السلطان محمود قوي وأن عمه سنجر أمره بذلك فاستشعر السلطان محمود وسار عن بغداد إلى همذان فلما وصل إلى كرمانشاهان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه ولم يظهر للإرجاف أثر فأقطعه السلطان مدينة كنجة وأعمالها وسيره إليها‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة في ربيع الأول بالعراق وبلد الجبل والموصل والجزيرة فخربت كثيرًا‏.‏

وفيها ملك السلطان محمود قلعة ألموت‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق الغزي من أهل غزة مدينة بفلسطين من الشام ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وهو من الشعراء المجيدين فمن قوله من قصيدة يصف فيها الأتراك‏:‏ في فتية من جيوش الترك ما تركت للرعد كراتهم صوتًا ولا صيتا قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكةً حسنًا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا وله في الزهد‏:‏ ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها وفيها توفي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد الدباس ابو عبد الله النحوي الشاعر المعروف بالبارع أخو أبي الكرم بن فاخر النحوي لأمه ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وله شعر مليح فمنه قوله‏:‏ ردي علي الكرى ثم اهجري سكني فقد قنعت بطيف منك في الوسن لا تحسبي النوم قد أوشحت أطلبه إلا رجاء خيال منك يؤنسني تركتني والهوى فردًا أغالبه ونام ليلك عن هم يؤرقني وهي طويلة‏.‏

وفيها توفي هبة الله بن القاسم بن محمد بن عطا بن محمد أبو سعد المهرواني النيسابوري ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وكان محدثًا حافظًا صالحًا‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة

  ذكر أسر دبيس بن صدقة

في هذه السنة في شعبان أسر تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق الأمير دبيس بن صدقة صاحب الحلة وسلمه إلى أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه لما فارق البصرة على ما ذكرناه جاءه قاصد من الشام من صرخد يستدعيه إليها لأن صاحبها كان خصيًا فتو في هذه السنة وخلف جارية سرية له فاستولت على القلعة وما فيها وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة فوصف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته وذكر لها حاله وما هو عليه بالعراق فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به وتسلم القلعة وما فيها من مال وغيره إليه‏.‏

فأخذ الأدلاء معه وسار من أرض العراق إلى الشام فضل به الأدلاء بنواحي دمشق فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق فحبسه عنده‏.‏

وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر وكان دبيس يقع فيه وينال منه فأرسل إلى تاج الملوك يطلب منه دبيسًا ليسلمه إليه ويطلق ولده ومن معه من الأمراء المأسورين وإن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخربها ونهب بلدها فأجاب تاج الملوك إلى ذلك وأرسل أتابك سونج بن تاج الملوك والأمراء الذين معه وأرسل تاج الملوك دبيسًا فأيقن دبيس بالهلاك ففعل زنكي معه خلاف ما ظن وأحسن إليه وحمل له الأقوات والسلاح والدواب وسائر ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري وأبا بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلم دبيسًا إليه لما كان متحققًا به من عداوة الخليفة فسمع سديد الدولة ابن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين وهو في الطريق فسار إلى دمشق ولم يرجع وذم أتابك زنكي بدمشق واستخف به وبلغ الخبر عماد الدين فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد فلما رجع من دمشق قبضوا عليه وعلى ابن بشر وحملوهما إليه فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه وأما ابن الأنباري فسجنه‏.‏

ثم إن المسترشد بالله شفع فيه فأطلق ولم يزل دبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود

في هذه السنة في شوال توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد بهمذان وكان قبل مرضه قد خاف وزيره أبو القاسم الأنساباذي من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة منهم‏:‏ عزيز الدين أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي والأمير أنوشتكين المعروف بشيركير وولده عمر وهو أمير

حاجب السلطان وغيرهم فأما عزيز الدين فأرسله مقبوضًا عليه إلى مجاهد الدين بهروز بتكريت ثم قتل بها وأما شيركير وولده فقتلا في جمادى الآخرة‏.‏

ثم إن السلطان مرض وتوفي في شوال وأقعد ولده الملك داود في السلطنة باتفاق من الوزير أبي القاسم وأتابكه آقسنقر الأحمديلي وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل ثم سكنت فلما اطمأن الناس وسكنوا سار الوزير بأمواله إلى الري فأمن فيها حيث هي للسلطان سنجر‏.‏

وكان عمر السلطان محمود لما توفي نحو سبع وعشرين سنة وكانت ولايته للسلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يومًا وكان حليمًا كريمًا عاقلًا يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفًا عنها كافًا لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ثار الباطنية بتاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق فجرحوه جرحين فبرأ أحدهما وتنسر الآخر وبقي فيه ألمه إلا أنه يجلس للناس ويركب معهم على ضعف فيه‏.‏

وفيها توفي الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله أخو المسترشد بالله في رجب‏.‏

وفيها في شوال توفي الحسن بن سليمان بن عبد الله أبو علي الفقيه الشافعي الواعظ مدرس النظامية ببغداد وأصله من الزوزان‏.‏

والخطيب أبو نصر أحمد بن عبد القاهر المعروف بابن الطوسي خطيب الموصل توفي في ربيع الأول‏.‏

وحماد بن مسلم الدباس الرحبي الزاهد المشهور صاحب الكرامات وسمع الحديث وله أصحاب وتلامذة كثيرون ساروا ورأيت الشيخ أبا الفرج بن الجوزي قد ذمه وثلبه ولهذا الشيخ أسوة بغيره من الصالحين فإن ابن الجوزي قد صنف كتابًا سماه تلبيس إبليس لم يبق فيه على أحد من سادة المسلمين وصالحيهم‏.‏

وهبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني الكاتب ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة سمع أبا علي بن المهذب وأبا طالب بن غيلان وغيرهما وهو راوي مسند أحمد بن حنبل والغيلانيات وغيرهما‏.‏

ومحمد بن الحسن بن علي بن الحسن أبو غالب الماوردي ولد سنة خمسين وأربعمائة بالبصرة وسمع الحديث الكثير وروى سنن أبي داود السجستاني وكان صالحًا‏.‏